فأعقبهم نفاقا في قلوبهم
فأعقبهم نفاقا في قلوبهم
من الآيات التي تشيب لها الرؤوس هو قوله تعالى:
ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين، فلما آتاهم من
فضله بخلوا به وتلوا وهم معرضون، فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما
أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون.
بالله عليك هل تتصور أن قوما كانوا مؤمنين ولقد
عاهدوا الله أن ينفقوا إن من عليهم بالعطاء، فلما أخلفوا الله ما وعدوه كان عقابهم
أن أعقبهم الله نفاقا في قلوبهم، قام القيام في قلوبهم بسبب فقط البخل والشح عن
الإنفاق في سبيل الله بعد المعاهدة، فما تأخر الأمر كثيرا حتى هجم النفاق وتمكن من
قلوبهم.
فما يؤمننا نحن ألا نعاقب حينما نقصر فيما علمنا
قدره وتعظيم الله له، ما لنا لا نخشى أن نعاقب بالنفاق إن انتهكنا حرمات الله
وأتينا ما نهانا الله عنه، كيف يأمن قوم يرون آيات انحطاط الكفار ويولونهم، وقوم
يرون آيات الله تتلى عليهم في التحفظ في العلاقة بين الجنسين ومع ذلك لا تراهم
يبالون بفتحها على أوجها، وقوم يرون آيات الله في موالاة المصلحين ومعادة الكافرين
ومع ذلك تراهم على أشد ارتباط واتباع وولاء للكافرين، كيف يأمن كل هؤلاء من أن
يعاقبهم الله نفاقا في قلوبهم.
وكل ما رأينا وسمعنا لهو خير بيان على صدق
الصحابة وحقهم في الخوف من النفاق، فلم يكن سبب الأمر هو ورع الصحابة وحسب، بل إن
الأمر أعمق وأشد من هذا، فإن المنافق قد يكون منافقا وهو لا يدري، قد يكون النفاق
متلبسا به وهو يظن نفسه من أهل الصلاح والفلاح، فليس هو قرار يتخذه المرء ويقرره،
هل يعلم المنافق أنه منافق؟
ليس الحال أن المنافقين كلهم يعلمون أنهم
منافقين، بل قد يكون الشخص منافقا وهو لا يدري، كما يكون بعضهم منافقا مع سبق
الإصرار والترصد، وهذه الفئة الثانية قد كثرت وعلت في مجتمعنا، ولهم من وراء
نفاقهم مع ادعاء الإيمان أهداف أهمهما أن يتكلموا بحرية وطلاقة دون أن يعترض لهم
أحد مع ما ساد على المسلمين من ورع غير مطلوب وبعد عن تعيين المنافقين ومجاهدتهم
والإغلاظ عليهم ظنا منهم أن هؤلاء ما داموا ينطقون الشهادة ويصلون فهم من عوام
المسلمين ولا حرج عليهم، ولكن ليس هذا، فالمنافقين كلهم، سواء كانوا بقصد أو غيره
معيين ولهم سمات وصفات أبرزها القرءان وجلاها، ولهم كذلك أحكام وتعاملات على
المسلمين أن ينهجوها تجاههم.
ونعيد التوكيد أن النفاق ليس فقط مؤامرة كبرى
وقرار كامن في النفس بهدف التشويش على المسلمين وتشكيكهم في دينهم وخداعهم، بل
بجانب هذا فهناك نفاق لا يعلمه من التصق به، فيكون الشخص منافقا وهو لا يدري بما
كسبت يداه، وخير مثال ذلك الرجل الذي عاهد الله على الإنفاق بعد العطاء، فلما بخل
بما أعطاه الله ما كان عقابه إلا أن أعقبه الله نفاقا في قلبه، وهذا ما يبين لنا
ويجلي لماذا سمعنا ورأينا كل هذا القلق والخوف المبالغ فيه من الصحابة تجاه
النفاق، وخوفهم من أن يكونوا منافقين وهم لا يعلمون، وسبحان الله على حالنا ونحن
بهذا الحال نأمن ولا نعي.
التورع الزائد من تهمة النفاق
من العجيب أن ترى المجتمع الإسلامي في العصر
الحالي يتجنب أن يعين الناس الذين تبدوا عليهم سمات المنافقين بالنفاق، على الرغم
من توالي الآيات التي تشير إلى للمنافقين أحكام وتعاملات يجب أن يسلكها المسلمين
معهم، ولا يمكن أن يكون هذا إلا إن كان هنالك منافقون معلومي النفاق ومعينين،
فالمنافقون في عهد رسول الله صلى الله عليهم وسلم
كانوا منخرطين مع المسلمين، كانوا يصلون ويصومون ويذكرون الله، ولم يمنع فعلهم لكل
تلك العبادات (مع كونهم يفعلونها بتكاسل وثقل) من أن يتم وصفهم بالنفاق، فهم من
قال الله فيهم: إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم، وإذا قاموا إلى الصلاة
قاموا كسالي، ولا يذكرون الله إلا قليلا. ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى، ولا
ينفقون إلا وهم كارهون.
فقد أثبت الكتاب والسنة أنهم يفعلون أفعال
المسلمين، إلا أن لعباداتهم اختلاف عن الصادقين، فهم لا يقومون للصلاة إلا
متكاسلين يشعرون بثقل شديد، ولا يقومون إلا في آخر الوقت، ولا ينفقون إلا وهم
كارهون غير محبين للصدقة، فقل لي بربك قبل أن نعود إلى الحديث عن سمات المنافقين
وتعيينهم، قل لي ألا تخشي من كل تلك الأفعال في نفسك وأهلك وأنت تراها قد علت
وبرزت في كثير من أفعالنا.
وبكل ذلك علمنا أن النفاق ليس هو حالة مستترة
خفية علينا، بل إن أمعنا النظر في آيات الله البينات سنرى أن الله تعالى قد بين أن
للنفاق صور وألوانا، فمنهم الخفي ولا يعرف نفاقه أحد، ومنهم من يصرح للبعض ويخفي
عن كل الناس نفاقه، ومنهم من يرى علامات نفاقه من كلماته وأفعاله، وتأمل قوله
تعالى: ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم، ولتعرفنهم في لحن القول. فيا ترى كم
من ألحان في الأقوال نسمعها عيانا ممن يدعي كذبا أنه ينتسب إلى الإسلام وهو بين
النفاق، وكم من أقوال تتعمق بصحابها إلى النفاق وننكر أن نعين أن هذا الشخص منافقا
لأن النفاق أمر مستتر لا يمكن أن نعلمه.
وكيف لنا أن نقول كل ذلك ونحن نرى التعيين قد ورد
في كتاب الله وسنة رسوله وعلى ألسنة الصحابة، وما أجمل عبارة كعب بن مالك التي
وردت في حديث طويل وفيه: فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه
وسلم فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه النفاق. تأمل معي يا رعاك
الله، يقول رجلا مغموصا عليه النفاق، أي معروف به بين المسلمين، وقد عينه الصحابي
تعينا جازما، فكيف له ذلك وأنتم تقولون ان النفاق أمر مستتر.
وهاك آخر يقول عن من يتخلف عن الصلاة: ولقد
رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق أو مريض، بل وكيف يأمرنا الله بأمر
نبيه أن يجاهد المنافقين، وعدم طاعتهم، وكيف يأمرنا أن نتوحد أمام تلك الفئة، وأن
ما يفعله الأخيار قد يكون هو سبب في الانقسام وذلك من قوله تعالى: فما لكم في
المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا، أتريدون أن تهدوا من أضل الله. فكيف ينهي
القرءان عن الانقسام تجاه المنافقين وأنتم تقولون أنهم لا يمكن تعيينهم.
فكيف لنا أن ندعي ورعا ما أنزل الله به من سلطان
من أن نكف عن تعيين المنافقين الذين قد علت على سيماهم كل صفات النفاق، وكيف لهذا
الورع أن يعطل جملة من أحكام الله لم تكن عبثا أبدا، ولقد وجهدت إلى طائفة معينة
تمام التعيين، فكيف لنا أن نكف عن تعيينهم ظنا منهم أنه أمر مستتر.
احذر من أن تكون منافقا وأنت لا تعلم
في الختام تذكر قول حذيفة لبعض التابعين: لقد أنزل النفاق على من هم خير منكم، يا الله.. هذا حذيفة أحد الصحابة يخبر بعض التابعين، وكلاهما ينتمي إلى خير قرون أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يقول أن النفاق قد نزل على من كانوا أفضل منكم وأن هناك من تورط في النفاق مع معاصرته للنبي وما ينزل عليه من معجزات وبينات، فكيف بحالكم! بل بالله كيف بحالنا نحن ونحن في عصر الشهوات والشبهات، عصر التخبط والغربة والضياع، ألا نخشى مع كل ما نحن فيه أن يكون عقابنا هو أن يعقب الله النفاق في قلوبنا بما كسبت أيدينا، فاللهم سلم ونجنا يا كريم.