قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم
قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم
يظن الكثيرون من البشر
أن من سبل سلامتهم من الموت هو أن يكفوا عن ذكره، ويتحاشوا التفكر فيه، يظنون بذلك
أنهم في مأمن وسلامة عن الموت، ظنا منهم ان في تحاشي ذكره هو سبب من السلامة منه،
ولقد أبرز القرءان هذا المعنى حينما صور هروبهم النفسي وأجاب على عدم جدواه بقوله
تعالى: قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم. فمهما تحاشيتم وفررتم فلا ريب
سيلاقيكم ما تهربون منه.
رد القرءان على من يفر من ذكر الموت
يتماشى القرءان مع
رغباتهم ويهب أنهم قد تمكنوا من الفرار من خطر معين أو فروا من باب ما من أبواب
الموت، وأن ظنهم السلامة أيضا ما هو إلا وهم لن يدوم مداه وأثره، بل مع هبة حدوث
ذلك فقد قال الله تعالى في قرءانه: قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو
القتل. بل وجاء التأكيد على أنه بافتراض تمكنهم من الهروب مرة فإنه في الختام لن
يدوم هروبهم وستأتي نهاية محتومة لما سيلاقونه من تمتع قليل، وبيان ذلك من قوله
تعالى: وإذا لا تمتعون إلا قليلا.
كذلك تناول القرءان
بألفاظ أخرى ما يسلكونه من عدم ذكر الموت والتفكر فيه تفكر نفسي تعايشي متمكنا من
قلوبهم بشكل حقيقي بعيد عن المعرفة النظرية، فأشار إلى أن فعلهم هذا إنما هو
كالحياد والتلاشي للأمر، وما هذا إلا أمر موهوم سيبان وهميته عند لحظة الموت، قال
تعالى: وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد.
الرد على توهم الفرار من الموت بترك ذكره
الرد واضح على هؤلاء
الذين يظنون أن في تلاشي ذكر الموت والتفكر فيه تلاشي لحدوثه ونجاة منه، وردا على
من لا يتأمل ويتقين بداخله أن للموت لحظة لا تأخر عنه ولا تقدم، وأن العبرة لا
تكون أبدا بالاقتصار على سلوك ما يظنه البعض من أسباب تجنبهم من تلاقي الموت، بل إن
اللحظة محتومة لا تأخر عنه ولا تقدم بأي حال من الأحوال، وأن الشواهد المرئية تبين
لنا أن الأمر محسوم، فكم من محارب تعرض لقصف طائرات، وكم من مقاتل وقع في العديد
من المواجهات، ومع كل ما تعرض له نجده عائدا لوطنه سليما يعمر في وطنه لعديد من
السنوات والسنوات، وفي الجهة الأخرى كم من ملك افترش قصره المشيد الذي تعلوه أحدث
التكوينات والتركيبات من صور وأشكال النعيم والأمان المختلفة ومع ذلك يأتيه الموت
وهو على أرق وأنقى الأسرة دون إعداد أو ميعاد، ففي كل ذلك جواب على من ظن أن في
الجهاد استعجال للموت وإقدام على ما يتعارض مع تجنب أسبابه، ورد على من ظن أن
الأمان في البقاء في المنازل والقصور المحصنة الآمنة، بل إن للموت لحظة وميعاد
محتوم محسوم، لن يراعي قدومه حال أو سبب أو توقيت، ولنرى دليل ذلك من القرءان
الكريم،
قال تعالى: فإذا جاء
أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
قال تعالى: وقالوا ربنا
لما كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب.
قال تعالى: وإن منكم لمن
ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذا لم أكن معهم شهيدا.
قال تعالى: أينما تكونوا يدركم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة.
كل ما عليك حتى تعلم كيف
تعيش مع هذه الحقيقة الصعبة التي لا مفر منها أن ترجع بذاكرتك لسنوات ليست بعيدة
متأملا في كم الأوجه التي كانت تمر أمام عينك في تلك السنوات، والتي كان لوجودهم
أثر في حياتك ومواقف عدة، أثر تعامل وتناظر وأخبار غيرها، عد بذاكرتك لتلك الأوجه
والتي باتت الآن تحت التراب، ما حالهم؟ ما مصيرهم؟ كيف جاءهم الموت؟ هل كانوا على
عدة للرحيل؟ تساؤلات وتساؤلات ستأمل قلبك وتعيك المعنى الحقيقي للنهاية المحتومة.
ألهاكم التكاثر، حتى زرتم المقابر
الناظر في أوجه الناس في
عصرنا الحالي يرى أنهم قد ولعوا بالانشغال بالدنيا والتنافس عليها، بين مناصب،
وسيارات ومنازل، وبين مكانة اجتماعية وغيرها من صور الحياة التي أشتعل لهيبها في
قلوب البشر وصاروا في أشد التنافس عليها، تنافس يظنون أن له وقت أو حد سينتهي عنده،
ولكن لا ينتهي التنافس إلا في وقت واحد، ألا وهو عندما يحين ميعاد الموت ودخول
القبر، ولقد أوجز القرءان التعبير على هذا الامر بأبلغ عبارة حينما قال: ألهاكم
التكاثر، حتى زرتم المقابر.
لن تنتهي رحلة التكاثر
إلا في تلك اللحظة، لحظة دخول القبر، اللحظة التي سنوقن فيها أننا قد ضيعنا الحياة
الحقيقية، الحياة التي كانت تستحق أن نعد لها وأن نتكاثر في امورها، ولكن في لحظة
لا ينفع فيها لا إدراك ولا ندم، فإياك أن تنشغل بأي شيء من هذه الدنيا، مهما كان
هو، مهما كانت أهميته واثره عليك، هو في النهاية حطام، حطام على وشك الذهاب، بل
والله سيمر وسيذهب بأسرع مما تتخيل.
هل بعد الأبدية من واعظ؟
يتعجب الإنسان كذلك أشد
التعجب حينما يرى نفسه امام مقارنة بين شيء مؤقت وشيء مؤبد، تخيل أن لك في بلدة ما
عمر محدد سيتم نقلك بعد ذلك العمر والوقت لبلد أخرى تقيم فيها أضعاف مضاعفة من
الوقت الذي قضيته في البلد الأول، تخيل لمن ستعمر وتبني؟ كيف ستقتصد في ملبسك ومطعمك
ومشربك وتقوم بنقل كل ما تملك لتلك البلد الثانية التي سيطول بقائك فيها لوقت كبير
جدا، بل وتخيل أن تلك البلد الثانية هي بلد خالية من مصادر الكسب والعيش وأن كل ما
ستحتاجه يعتمد فقط على الفترة القصيرة التي ستقضيها في البلد الأولى؟ بعد كل ذلك
يا ترى ماذا أنت صانع؟
لا أكاد أجزم أنك
ستتفانى في بذل كل ما بوسعك حتى تدخر المال والعدة والطعام والملبس وكل صور النعيم
المتاحة حتى تنعم في البلد الأخرى التي ستعمر فيها طويلا، وستتحامل على نفسك
وتقتصد في كل أشكال النعيم وتتحمل كل أنواع الألم النفسي والجسدي، وكل ذلك في سبيل
أن تحصل كل ما يمكن أن تحصله في تلك الفترة القصيرة، موقنا أنها فترة قصيرة وأنها
حتما ستنتهي، ثم بعد أن تنتهي ترى نفسك تتنعم بكل ما حصدت وجمعت في تلك الفترة
القصيرة، ولكن في بلد أجمل وأنعم مئات المرات من تلك البلد الحقيرة التي يزيل عنك
ألم ما فيها يقينك أنها لن تدوم، وأنها قصيرة زائلة في أقرب وقت، فهل بعد كل تلك
الأمور من دافع لك على العزيمة والهمة الكبرى في أن تعمل وتتحمل وتصبر وتجاهد نفسك
في كل ما ستواجه وتقاسيه في تلك الفترة القصيرة التي ستقضيها في بلد الكد والعمل؟
اليقين وذكر الموت
لا يدفع الإنسان لمجابهة
كل ما يلقاه ويصبر عليه ويبشره إلا يقينه بالموت، فهؤلاء الذين تسهل عليهم الصلاة،
الذين لا يجدون فيها ثقل ولا كبر، كانوا هم من قال الله عنهم: وإنها لكبيرة إلا
على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم. وهؤلاء النفر الذين ثبتوا مع طالوت
كان وصفهم كما قال الله: قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله.
فمن نظر في حال من تشبعت
قلوبهم باليقين بالله وبالموت وبالدار الآخرة يجدهم أشد الناس ثباتا وعملا، ففي
جهادهم لا يخشون إلا الله علما منهم أن هناك ما ينتظرهم، ويقينا منهم بحدوث مرادهم
بفضل الله عليهم، وقد جعل القرءان أن انتظار الموت هو شعبة من شعب الإيمان، فقد
قال: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من
ينتظر، وما بدلوا تبديلا. لقد ثبتوا وكانوا في ترقب وانتظار للموت وكل ذلك بما في
قلوبهم من يقين، والخلل كل الخلل أن يتحول اليقين من شعلة للعمل ودفعة تحفز صاحبها
على الانطلاق في كل سبل الصلاح إلى تعطيل العمل والفتور عن كل ذلك، فهذا فهم خاطئ
لا يتماشى مع المعنى الحقيقي لليقين بالله والموت والدار الآخرة، بل هو دافع للعمل
والصبر، ومانح لمزيد من القوة والعزيمة، ويغير نظرة الإنسان لكل الأمور في حياته،
فيصبح تعامله الوحيد معها من جهة ما علاقتها بربي؟ هي تقربني أم تبعدني عنه ولا
تنفعني؟
بعدما يتملك اليقين من
قلب الإنسان، يصبح الإنسان بعد ذلك في حالة من القلق والتساؤلات التي تشغله في كل
أمور حياته، ولا يقصر نظره في أموره، بل يبعد ليشمل مساحات واسعة من الفكر والتأمل
والآثار لكل عمل.
تختلف نظرة طالب العلم
إلى العلم والكتب، يزهد في أشكال الترف فيها، ويقتصر نظره على البحث عن الهداية
فيها، يصبح كل مقصوده معرفة معاني كلام الله ورسوله وبثه في نفسه وفي الناس
لهدايتهم.
وعلى رأس ما ينتج عن ذلك
هو التغيير الكبير الذي يحدث في تعامل الإنسان مع وقته، فمن غفل عن ذكر الموت ضاعت
سنونه وشهور، ضاعته أيامه ولياليه، ضاعت ساعاته ودقائقه، ضاع كل ذلك في غفلته التي
تمكنت منه، ضاع في الاستراحات والتفاهات وجلسات القهقهة التي لا تقرب لله إن لم
تكن هي ذاتها سبب من أسباب البعد عنه، حتى أن ذلك قد يشمل بعض من سيماهم الصلاح،
فليست العبرة بالسمات إنما بالحقائق.
على عكس ذلك ترى من تشبع
قلبه باليقين في ولع على وقته ومروره وقضائه، فيبخل بوقته أن يذهب في سفاسف الأمور
وتوافهها المباحة دونا عن المحرمة أو المكروهة، فلا يضيع وقته في تصفح عالم النت
بلا جدوى ولا فائدة، ولا يضيع وقته في المقاهي والمباريات، ولا يضيعه في التعليقات
والجدالات.
ترى ذلك المتيقن لا يكف
في كل أوقاته محافظة عليها، وشغلها بكل ما ينفعها، حتى أوقات انتظاره، وسيره،
وجلوسه، لا يكف في أي لحظة من وقته عن ذكر أو عمل صالح أو كل ما أمكن، وما أجمل أن
تسمع قوله تعالى: الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم. في كل حال من الأحوال،
بل وحتى بعد الفراغ من الصلاة التي كل ما فيها أذكار، يأمرهم بأن يذكروا الله على
تلك الحالات.
تأمل في اوقاتك، في تلك الساعة التي مرت سدى، في تلك الجلسة التي ضاعت من عمرك دون أن تجني منها ما يعود عليك بالنفع والسرور يوم الحساب، تلك الأوقات التي راحت هباء منثورا إن لم تكن قد ذهبت في محرم؟ تأمل ان كل تلك الأوقات إنما هي ثروتنا التي تمر وتنقضي دون أن تعود، والله لن تعود أبدا، فإن لم تستغلها وتعمرها بتسبيح وتحميد وتهليل وذكر وصلاة وتقرب فستندم وتتحسر عليها في وقت لا ينفع فيه الندم والحسرة، ولا أدرى مع كل ذلك كيف لنا أن نكون في حالة من البرود والهدوء أمام عقارب الساعة التي تمر دون أن تتوقف أبدا.