معاني العبادات
معاني العبادات
لا يبلغ العبد النجاة بفعل العبادات مجرة، بل إن
الأصل من تلك العبادات هو ما كمن فيها وما تضمنته في داخله من معاني، فرب مصلي
وصلاته تبعده عن طريق ربه والقرب منه، ورب صائم لا ينال من صومه غير الجوع والعطش،
ورب قائم لا ينال من القيام سوى التعب، والقائمة تطول، فالعبرة بالمعاني الكامنة
في تلك العبادات لا بمجرد ما تضمه من حركات.
ونسمع كثيرا على أن للعبادات تأثير كبير في قلوب
المؤمنين وحياتهم وشخصياتهم ويومياتهم، إلا أن العبادات لما فرغت عن معانيها فقدت
صلاحيتها في التأثير في العباد وخلقهم، فترى هذا يصلي وخلقه سيء، وهذا يذكر ولا
ينتهي عن الفحشاء والمنكر، وهذا يصوم ولا يعامل الناس إلا بالعمل السوء، ففهم
كوامن العبادات ومعانيها الروحية الداخلية هي أسس العبادة والمبتغى الحقيقي.
والأدلة على ذلك كثيرة، فإن الآية التي جاءت
تتكلم عمن كان قانتا آناء الليل ساجدا وقائما، لم تكن في كلامها مقتصرة على فعل
القيام وحسب، بل جاءت مربوطة بالأهم من الفعل والذي تمثل في قوله: يحذر الآخرة
ويرجو رحمة ربه، فكيف يكون حذره من الآخرة بالأفعال؟ أم هل هنالك سبيل للحذر من
الآخرة واستشعار الخوف منها وما تضمه من أهوال سوى بالقلب؟ فكأن قلبه محاصر ومحاط
بكل أجزائه بشعور طبيعي غير تكليفي بمعاني الآخرة والخوف منها، وكذاك الذي قام
يتجافى ويتخاصم مع سريره ليقوم للصلاة، فهل العبرة بتلك الخصومة، أم بما جاءت به
الآية تابعة بقوله: يدعون ربهم خوفا وطمعا، فكيف يكون خوفهم وطمعهم بالأعمال؟ أي
عمل يقوم بتلك المعاني غير المعاني الحقيقية التي تضمها العبادات في كوامنها.
ولك كذلك أن تنظر إلى تلك المقارنة المعقودة في
كلام النبي بين مصل ومصل آخر يصلي معه نفس الصلاة، أحدهم يقول عنه النبي أنه قد
فرغ من صلاته مغفور له، والآخر فرغ منها مبعد عن رحمة ربه وطريقه وصلاته مردودة
عليه، فالعبرة بما تحرك في القلوب وما فهم من معاني تلك العبادات، وليست العبرة
بالجوارح والحركات! ّ.
وكذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء، فالعلم
هو من يحرك القلب ويوصلك إلى فهم تلك المعاني، وكذلك بالعلم يحصل الإنسان على أجور
كثيرة بأعمال قليلة، فرب عمل واحد تحرك فيه القلب خير من عمل آخر فيها مليون حركة
بلا قلب.
واختصار كل ذلك أن الله سبحانه وتعالى عندما نظر
إلى ذبح الهدي قالها صريحة أنه لن ينال منكم لا لحوم تلك الذبائح ولا دمائها،
ولكن؟ ينالها التقوى منكم، فالعبرة بالتقوى التي محلها القلب ولا غير.
معاني الصلاة
قطع الاسترسال: من أعظم معاني الصلاة أنها تقطع
استغراق الانسان واسترساله في كل لهو اليوم وأفكاره والأوضاع المختلفة التي تتعارض
معها، فأنت تظل نائما ولا تقوم من نومك وقد تبقى طيلة اليوم نائما لا تبالي، إلا
بسبب الصلاة، تأتي الصلاة فتقطع نومك وتقوم مسرعا لتأدية الصلاة، وهو من أكبر
المعاني التي لها دور في جعل الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.
تظل في مذاكرتك وعملك وبيعك وتجارتك، بل وقد تكون
في أشد أوقات التجارة واستعار التعاملات، حتى إذا ما نودي للصلاة نفضت كل ما في
يدك فورا وقمت إلى الصلاة، ولك في النبي صلى الله عليه وسلم خير مثال، فيكون مع
أصحابه مسترسلين في أمر وجدال ونقاش حتى إذا ما نودي للصلاة قام من بينهم كأنها لا
يعرفهم بالمرة، وفي بيته يكون في خدمة أهله حتى إذا ما نودي الصلاة خرج للصلاة
فورا!
وهذا عمر ابن الخطاب يأمر ابنه أن يفارق زوجته
التي كانت تؤخره عن الصلاة أو تقطعه عنها، وكل تلك الأمور هي أسس نهي الصلاة عن
المنكر،
فأنت تظل طيلة اليوم تحترق وتحترق، ويعلم من طبع
الإنسان أنه مسرف على نفسه، يأخذه الاسترسال في كل أمور الدنيا وملهياتها، فلو ظل
طيلة اليوم يكتب كتابه، أو يرقد نائما في سريره، أو يسامر في حبيبته، أو يلعب مع
أصدقائه، قد لا يبالي بكل تلك الاستغراقات والاسترسالات إلا بسبب الصلاة، فإن جاء
وقت الصلاة قطع نفسه عن كل الأمور في يديه كبيرة أو صغيرة وقام إلى الصلاة.
ومن المهم أن تعلم أن معنى قطع الاسترسال من
المعاني التي قد تتفرد بها الصلاة، فأنت قد تكون جنبا طيلة اليوم ولا يؤثر ذلك لا
في صومك ولا في ذكرك، ولكن الصلاة؟ لا بد لها أن تقطع استرسالك هذا وتقوم تغتسل
حتى تستبيح باغتسالك الصلاة.
معاني الزكاة
حاجة الغني إلى الفقير: من أعظم المعاني في
الزكاة أنها تؤكد على احتياج الغني للفقير وليس العكس، فإن الغني إن لم يجد الفقير
ولم يبحث عنه عجز عن أداء واحد من أركان الدين الأساسية، وكفى بذلك خسرانا، فضاع
بذلك دينه، بينما المسكين والفقير إن لم يجد الغني لم يضيع دينه، بل تضررت دنياه،
وليس الضرر في الدنيا كالضرر في الدين.
وكذلك يؤكد الإسلام دائما ويوصى بحب المساكين
والتودد بهم ولهم، ولقد أنزل الإسلام الغني من علياءه وجعل مكان أداءه للزكاة هو
بيت الفقير، فليس الأمر مجرد بحث عن الفقير والوصول له وحسب، بل بعد البحث حمل
النفس وأخذها للذهاب إلى بيت الفقير وتقديم الزكاة له في بيته تعبيرا عن احتياج
الغني للفقير حتى يتم الله له هذا الركن.
فأنت تبحث عن الفقير وتبحث عن بيته وتنزل من
علياءك وتذهب إليه لتؤدي حق الله له، ويوصى النبي بالضعيف والفقير والمسكين، ويرشد
إلى أن من يبحث عن النبي فعليه بهم ويقول ابغوني فيهم، فكل ذلك يدل على أنك بدون
الفقير لن تؤدي ركنك، ولا تصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مع كل ذلك بعد
أن تبحث وتصل له ولبيته لا بد أن تعطيه الزكاة بحسن خلق ولطف وود، فلو تأذى منك
أقل أذى لحوسبت عليه يوم القيامة، فتتفنن في أن تعطيه لها بطيب نفس وحسن خلق ولطف
ولين تجعله مكرما لا حزينا مهانا، ولو فكرت مجرد تفكير في ذلك لحوسبت عليه وعوقبت
إن أراد ربك.
ولما تجيء آية الزكاة تجد الله سبحانه وتعالى يقول فيها: خذ من أموالهم صدقة
تطهرهم بها وتزكيهم، فكأن حتى فعلك للزكاة إنما هو من حاجتك أنت إليها، فأنت من
تحتاج إلى ما يطهر بواطنك وينقيك ويزكيك مما فيك من دنس وإثم، بينما ذاك الفقير لا
يحتاج إليك فهو من دواب الله التي أكد أن على الله رزقها، ومجرد الكلمة الصغيرة
منك تنهر بها السائل تحاسب عليها يوم القيامة، فلقد نهى الله سبحانه وتعالى عن نهر
السائل وعن إيذاءه كما ورد في محكم آياته، فتخيل أن مجرد قولك للسائل "خلاص
بقى يا أخي" تسأل أنت عليها وتحاسب حتى ولو لم يكن للسائل الحق في ذلك وليس
ذاك مكان الفصل، ولكن لك أن تتخيل أن كل تلك المعاني هي المعاني التي بها تطهرك
الزكاة وتؤثر فيك وبدونها لا ينالك من مالك سوى بذل ما قد لا ينفعك بل قد يضرك إن
تخطيت المسموح لك فيه.
معاني الصوم
الامتناع مع القدرة: ليس الأمر في الصيام كما يظن
الكثيرون أنه مجرد جوع وعطش، بل إن معانيه الكامنة عظيمة وكبيرة، فهو يكسر النفس
ويربيها على أن تخضع لإرادة الله وتمتنع عن فعل حتى المباح حتى وإن طاقت إليه
النفس وشاقت أشد اشتياقا، فعلى العكس من ترك كل المحرمات الأخرى من زنا وخمر وربا،
فنحن عندما نتركها إنما نترك محرم منبوذ عندنا، أما الأمر في الصيام فنحن نترك ما
نحب ويباح لنا، فيمر الإنسان بعد تسحره في رمضان وإذا به يجد ثمرة على مائدة
الطعام من أشهى ما يحب نسي أن يأكلها قبل الأذان، فإذا به بعد الأذان عندما يراها
تطيق نفسه إليه ولكنه يشد عليه يده لأنه ممنوع، فتراه مع قدرته وحبه للأمر فهو
ممنوع يمتنع عن الفعل وهو قادر مستطيع، وهذا مخالف لطباع البشر عامة، فالإنسان
بطبعه يفعل ما يمكنه دون أن يبالي، فالإنسان إن قدر على شيء لم يتوان في فعله،
فالفقير بسبب فقره قد لا يقدر على شراء وفعل أشياء كثيرة، ولكنه فور أن يكون غني
يهرول لفعل كل تلك الأمور التي كان عاجزا عن فعلها، فلم يمنعه ابتداءا إلا الفقر،
ولم يتوان في الفعل بعد القدرة، أما الصيام فهو أنك مع كل القدرة ممنوع تمنع نفسك
عن الفعل المباح المحبب لك.
فكأن الصيام يعلمك صفة العفاف، أن تترك المباح مع
قدرتك عليه، وحتى ما لك من قصاص وحق في رد الاعتداء (خصوصا اللفظي عليك) بالمثل،
ممنوع ومتروك في الصيام، فتكسر نفسك بترك الأكل والشرب والجماع وما يتضمنونه من
مباح ومحبة، وكذلك تترك ما لك من حق في القصاص إن سبك أحد أو شتمك ولا تترك ذلك
بعد رمضان، فليس الأمر مجرد جوع وعطش فحتى لو قال لك أحدهم أننا في رمضان لا
نتماشى مع ما يقولوه العلماء من أن الصيام هو صيام عن الطعام والشراع حيث أننا
نستهلك ونسرف في تناول الطعام في رمضان بقدر قد يفوق في غير رمضان، فنقول لهؤلاء:
حتى وإن كان هذا مخالفا للسنة فإنه ليس الأصل، فمن فعل فلا علاقة ذلك للمعنى
المشهور من أن الصيام جوع وعطش وحسب، بل ما دام قد كسر نفسه ومنع نفسه عن المباحات
من الطعام والشراب فهذا هو المقصود والمراد من تلك العبادة.
ولذا من أهم معاني الصوم هو تعلم الانكسار لله عز
وجل، وذاك المعنى من أجل المعاني الموصلة لتحقيق التقوى من الصيام، ومن العجيب أن
يصوم البعض عما أحله الله من الطعام والشراب ولا يصوم عما حرامه من الغيبة،
والنميمة، وسوء الفعال ،والكلام.
معاني الحج
تعبد ورقة: بينما ترى الإنسان في قومه سيدا
مهابا، يشير بأصبعه فيقوم من تحته الخادمين لتلبية أوامره، هذا السيد، وهذا الرئيس
يأتي إلى الحج فيخضع رأسه للحلاق حتى يحلق له بالموس، وينحني كالطفل الصغير يلملم
الحصوات من الطريق ليقيم الشعيرة المرتبطة بها، يبات في جبل بعيدا عن ريشه وحريره،
وتراه مهرولا منخلعا مما كان يستعلى على القيام به من هرولة تهز جوانبه، متخليا عن
كل ثيابه إلا ما تعلمون ويترك كل أحذيته إلا من شبشب فقط يقيم به مناسكه، كل ذلك
خضوعا وذلا وانقيادا وتعبدا لله رب العالمين، فكيف تريد أن يتحرك قلبك وأنت لا
تفقه كل تلك المعاني،؟ وتلك المعاني تربي العبد على الخضوع والتذلل وإزالة مشاعر
العلو والاستكبار والأبهة، وهي من خير ما يعين على التواضع وعلى صلاح القلب.
معاني الذكر
سيد الاستغفار: فضائل الذكر معلومة وكثيرة وقد لا
تحصيها من كثرته وجلالها، ولكل ذكر معنى عظيم ينبثق منه وفهم ذلك المعنى هو غاية
كبرى ونتاجه فوز كبير، ويكفى أن هنالك ذكر من الأذكار مقرون قوله بما يمكن أن نقول
عليه شهادة براءة من النار، وهو سيد الاستغفار فقد ورد أن من قاله ثلاث مرات عندما
يصبح ومات من يومه دخل الجنة، وكذلك إذا أمسى، ذلك الذكر يحوي في طياته قول: وأنا
على عهدك ووعدك ما استطعت، من قال ذلك القول ثم تراه مخالفا لعهد الله ووعده فلقد
كذب وما حقق المعنى المنطوي داخل الذكر، ولكن من فقه المعنى وعمل به وجبت له الجنة
إن مات في يومه.
ونحن كثيرا ما يسمع الناس حكاية الرجل الذي دخل
الجنة في سقي كلب، ويظن البعض أن سقي الكلب هي العمل الذي أدخله الجنة. بينما لا
يتأمل الكثير في أن المعنى الحقيقي الذي أدخل الرجل الجنة هو العمل الذي وقر في
قلبه، فإن الرجل أشفق ورحم هذا الكلب بقلبه عندما أدرك شعوره وما يعانيه ويقاسيه،
فكان عمل قلبه هو سبب دخوله الجنة وليس السقاية لذاتها كما يفهم الكثير، ولذا فأنت
قد ترى ملايين الناس يسقون كلاب وقطط وحيوانات شتى، ومع ذلك لن يروا ما رأى ذلك
الرجل، وذلك لأنهم قد خلت أعمالهم الظاهرية من ذلك العمل القلبي الموجب لدخول الجنة،
وكذلك الذكر، فالفكرة فيه بمعنى الذكر وما يتحرك في القلب من فهم هذا المعنى، وليس
بمجرد نص الذكر وحروفه.
معاني الوضوء
بينما يعتبر الكثيرون أن الوضوء هو فعل ما تستباح
به الصلاة ما يباح بالوضوء وحسب، ترى الإسلام يقول أن الوضوء لكل صلاة سنة، حتى
وإن كنت متوضأ، وإنما ذلك ليوصل للقلب رسائل شتى من خلال ذلك الوضوء.
فالوضوء هو تلك العلامة التي أرسيها علي حتى
يعرفني رسول الله صلى الله عليه وسلم بها يوم القيامة، عندما يكون المسلم غرلا
محجلين من آثار الوضوء، فإنني بكل وضوء أذكر ذلك الموقف الذي أنشل فيه من بين
البشرية بمعرفة رسول الله لي من خلال تلك العلامة. وكيف لك أن تغفل عن إطالة تلك
العلامة.
وبالوضوء تخرج الذنوب من العبد حتى من تحت أشفار
عينيه (النظر الحرام)، وتخرج ولو من بين أظافره، ومن يتوضأ ويقول ذكر الوضوء بعده
تفتح له أبواب الجنة الثمانية أدخل من أيها شئت!
فبتلك المعاني تحب التطهر، هذا التطهر الذي يجعلك
تتذلل بإسباغ الوضوء على المكاره، هذا التطهر الذي يجعل آخر شيئا فعلته قبل الدخول
لمناجاة رب العالمين والوقوف بين يديه إنما كان من بعد فعل حسن جميل هو التطهر
والتنظف.
وكيف تنسى أن تنام على وضوء وهنالك نص يقول لك أن
من نام على وضوء فإن روحه تسجد عند عرش الرحمن، ومن لم يتوضأ تبعد روحه جدا. فكيف
ستكون حالك صباحا عندما تستيقظ وأنت روحك طيلة نومك تسجد عند عرش الرحمن.
بل وكيف لا تتعجب من أن من السنة لمن كان جنبا
ولا يقوى أو لا يريد أن يغتسل أن يتطهر أن يتوضأ وينام على وضوء، وما في ذلك
المعنى من أهمية الوضوء في كونه حصنا من الشيطان!
فكيف تغفل عن التطهر ولا تستشعر معاني تلك
العبادة، وكيف لا تتفكر في لحظات وضوءك وأنت إنما تتوضأ وتتطهر وتتحسن لله رب
العالمين؟
معاني قيام الليل
ما ورد في قيام الليل من أنه شرف المؤمن، ومن
ارتباط المغفرة به لمن أداه في ليالي رمضان إيمانا واحتسابا، وما بلغه من حديث
كبير طويل مختلف من العلماء يعد دليلا صارخا على أهمية قيام الليل، وما هذه
الأهمية إلا لما احتواه القيام من معاني مختلفة!
يكفي من شرف المؤمن من قيام الليل أن رب العزة
سبحانه وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا وينادي على عباده وعلى العاصين وعلى
المحتاجين، يكفي أن تتأمل في أنك تقف بين يدي خالقك ومبدعك ومنشأك، يكفى أن تتأمل
أنك تقف بين يدي من هو أرحم عليك من نفسك، تخيل أن سيد السيدات، ورب العالمين،
مالك الملك، خالق الخلق، ينادي عليك ليبلي حاجتك، فأنى لك أن تتخلف؟
المعنى من عبادة التوبة
الشعور الدائم بخوف الزلل ودوام الاستغفار
والرجوع إلى الله عز وجل، ولقد مدح القرءان بكثرة العباد الذين يكثرون التوبة
والإنابة والرجوع إلى الله عز وجل، ولم يمدح أو لم يقل على النقيض بمدح قليلي
الخطأ والعصمة، وإن كان مراد لكنه يكاد ينعدم، بل إن الحديث ورد بعكس ذلك بقوله:
لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم. فاجمل
معاني التوبة هو إحسان الأوبة والرجوع إلى الله ودوام الشك في النفس حتى وإن خالت
أنها على أحسن حالها صوابا إلا أن صاحبها لا يأمنها ولا يبرأها من السوء الذي قد
يلم به وهو لا يعلم!
أما من أصابه الغرور وعدم الرجوع والإنابة وظن في
نفسه أنه معصوم أو أنه مبرأ من الزلل والخطأ فذلك هو الموصوف بالكبر، فإن أصر ذلك
المغرور، حتى لو كان على الصغائر فإنها كالكبائر!
ولذا فأهم ما في العبادة هو فقه الرجوع والإنابة
والتذلل لله رب العالمين والإقرار بالذنب وطلب العفو والمغفرة، وكل ذلك بصدق وضعف
وافتقار إلى الله رب العالمين الرحمن الرحيم.
غاية العفو عن الناس
يظن البعض أن في عفوه على الناس وصفحه عنهم إنما
ذلك تفضلا منه وإحسانا إليهم، ولكن حقيقة الأمر أن الإنسان إنما يحسن إلى نفسه
ويعفو عن نفسه قبل أن يكون عفوه موجها إلى غيره، فإنك تجد الحديث القدسي يقول: إن
شئت عفوت وعفوت عنك، وإن شئت اقتصصت واقتصصت منك، وكذلك إن أنت عفوت عن كل الناس
فإنك لن تكون أكرم من رب العالمين، فمقابل عفوك عن كل الناس يعفو الله عن كل سيئة
تصدر منك، فتلك فرصة كبرى.
بل حتى إن اعتذر إلى المظلوم وجاء الظالم ليطلب
عفوه ولم يعف عنه، تجد الحديث يقول في حق ذلك أنه لا يرد على الحوض يوم القيامة.
ومن عفا عن أخيه، حتى لو لم يعتذر وأقلت عثرته ولم تحاسبه فإن الله يقيل عثرتك يوم
القيامة، فكأنه لم يفعل أي شيء. وهكذا في كل تعاملاتك مع البشر، العفو عنهم، عفو
عنك، وإكرامهم إكرام لك، وهكذا.
المعنى من معاملة الناس
يجعل الإسلام المسلم بالنسبة للمسلم الآخر كنز
ثمين، يجعله لك طريقك إلى الجنة، فتجد في الحديث يقول: لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا
ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ولن تجد الحب إلا في أخ مسلم لك تبحث عنه حتى تقيم تلك
السنة. وتجد الأحاديث المختلفة عن أن من كمال الإيمان أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك،
وأن يسلم منك أخيك وكل ذلك من المعاني التي تجعلك تدرك تمام الإدراك أن أخاك
المسلم هو كنزك وطريقك إلى الجنة، بل إن الإنسان الذي لا يتعامل مع الناس على أنهم
طريق جنته يصعب عليه جدا تحمل التعايش مع الناس والصبر على عيوبهم وأذاهم وتعديهم،
وتوافرت النصوص العديدة التي تجعل خدمة المسلم والقيام على أموره من الأعمال ذات
الأمور التي قد تفوق عبادات عظيمة في الإسلام.
فتجد في القصة التي خدم فيها المفطرون أصحابهم
الصائمين عندما كان النبي وأصحابه في سفر، تجد الرسول يقول على المفطرين الذين
قاموا بخدمة أصحابهم: لقد ذهب المفطرون بالأجر، وترى في الأحاديث الأخرى: من فرج
عن مؤمن كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم
القيامة، ومن أقال عثرة أخية أقال الله عثرته على الصراط يوم تزل الأقدام، ومن مشى
في حاجة أخيه أحب إلى الرسول من الاعتكاف في مسجد المدينة شهرا، وهكذا. من وعى تلك
النصوص وفهم معانيها يدرك تمام الإدراك أهمية أن أخيك المسلم هو طريقك للجنة،
وتجعل تقبلك لأذاهم والصبر عليه أوسع وأكبر، بل قد تصل بك إلى حالة من التلذذ بما
يفعلون ابتغاء مرضات الله والجزاء منه. ويجعلك دائما تحسن إليهم مع ما يصدر منهم
من إساءة.
معاني بر الوالدين
يظن الكثيرون أن الدرجة العالية لعبادة بر
الوالدين إنما هو من خلال تقديم الأعمال الكثيرة الحسنة والطيبة إليهم، ولكن هذا
ليس بصحيح، إذ أن الأصل هو ما وقر في القلب، فلو أديت كل ما تقدر من إحسان وقلبك
غائب عن والديك فذلك من العقوق، بل إن مجرد تمني وفاة أحدهما لما به من كبر وما
يرافقه من صعاب وثقل ومشاق على الابن من العقوق، بل إن مجرد اعتبار وجود الأم
والأب عبء عليك يشغلك عن ما حل بك من جديد المصالح والمشاغل من العقوق كذلك.
ولقد جاءت الآية تقول لك أن المطلوب منك هو
الوصول لدرجة الذل، نعم درجة الذل والانكسار تحت قدميهما، وذلك في كل ظواهرك، بل
وفي بواطنك يمتلأ قلبك حبا لهم وشفقة عليهم لتقل لهما: رب ارحمهما كما ربياني
صغير. ومن أمثل ما جاء في البر القلبي هو فعل ذلك الثالث الوارد ذكره في قصة
الثلاثة الذين أوصد عليهم الغار بصخرة، فإن ذاك التقي تقرب إلى الله بما فعل من بر
قلبي إذ أنه كان كل يوم يعود إلى أهله بالطعام والشراب ولا يسقي قبلهما أي أحد من
أولاده أو زوجته، وذات يوم تأخر حتى عاد ووجد أبواه نائمين. فحرص على أن ينعما بكل
لذة ممكنة من لذات النوم فلم يوقظهم، وخشى من أن يتركهم لاحتمال أن يوقظهم قرص
الجوع ليلا فلا يجدون طعاما، فظل واقفا وأهله من وراءه يقول لهم لا أسقي أحد قبل
أبوي، ولما استيقظا قدم لهما الطعام حتى يحصلا على لذته كاملة كما حصلا على لذة
النوم كاملة.
فالمسألة ليست أن أعطي أعمالا أو مالا أو كل ذلك،
بل أن تعطي قلبا تشعرهما بالحنان وعطفك ولطفك بهما. فإن خفت منك العمل القلبي فلا
قيمة لما تظهره. ومهما يفعل الولد مع والده فلن يكافئه حقه أبدا أبدا، إلا أن يجد
الابن أباه عبدا فيعتقه.
معاني سنن الفطرة
وهي أن تطلق اللحية وتقص الشارب وتحلق شعر العانة
والإبط والسواك وقص الأظافر.
ولا تكمن العبرة في مجرد الفعل نفسه، بل إن
العبرة في أن حتى شكلك ليس ملك لك، وأنت مسلم نفسك لله في كل أمورك حتى في شكل
نفسك، وأن شكلك وجسدك كله ملك لله تتصرف فيه على مقتضى إرادة الله منك، الله الذي
خلقك وهو يعلم السر وأخفى، فتتحول إلى شعور قلبي بالعبودية في كل صغيرة وكبيرة من
أمورك!
ومن أدق معاني العبودية والتسليم لله في أدق
أمورك أنك أنت نفسك بنفس جسدك تجد الإسلام يبيح لك أن تطيل شعرك ولحيتك وتعتني
بهما وبطهارتهما، ولكن لا يبيح لك أن تطيل أظافرك!، وتجده هو نفسه يتيح لك أن
تتعطر، بل ويجعل ذلك من سنن الحاج قبل الإحرام، بينما يجعله محظورا وعليه جزاء إن
فعلته بعد الإحرام، وهكذا في كل سلوكك وتصرفاتك وحركاتك، كل ذلك ملك لله ولا تملك
في أدق أمورك أن تسير إلا على مراد الله، متعبدا وخضوعا وتذللا لله في كل ذلك.
معنى الكلمة
بينما وصل حال الكثير والكثير من الناس إلى
الاستهانة بالكلمة وتجريدها من أي قيمة وأثر، وشيوع الرد بقولهم "هتقف لي على
الكلمة"، كان من فعلك ذلك تشددا وضيق أفق منك، وبينما تسرب ذلك الأمر في وسط
جل البشرية. تجد الإسلام في المقابل يعلي شأن الكلمة ويرفع من قدرها وقيمتها أشد
رفع. فتجده يقول: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، وتأمل
الربط بين الإيمان وبين الكلمة.
وتجده يقول: ما يلفظ من (قول) إلا لديه رقيب
عتيد، مجرد الكلمة الواحدة لها ملاكان قائمان عليها،، وتجده يقول: بكلمة يبيح لك
من مرأة أجنبية ما لا يباح لغيرك من البشر، وبكلمة يحرمها عليك البتة، والعقد في
الشريعة كلمة، وجعل الكلمة الواحدة من سخط الله (لا يلقي لها بالا) فتلقي به في
النار سبعين سنة، ومن أعان على قتل مسلم ولو (بشطر كلمة) يكبه الله في نار جهنم
خالدا فيها، وأبو لبابة بمجرد إشارة باليد لا تصل إلى قيمة مجرد كلمة واحدة يقول
عن نفسه أن خان الله ورسوله،، وأبو بكر يضع على لسانه حصوة حتى لا يتكلم قبل أن يفكر،
ومن المعايب في شرعنا وعرفنا الثرثرة، وعلى العكس من قل كلامه وانتقى أحسنه في
مقام عال، وتجد النبي يقول: وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم.
فتلك هي الكلمة التي يقولون لك فيها: هتقف لي على الكلمة!؟.
معاني خفض القوى والتواضع
لا يأتي الصلاح من استخدام القوى وفق قدرها
ومداها، بل وفق مراد الله وأوامره، فبصرك القوي، عليك غضه. ومشيك المتكبر
المتبختر، عليك أن تقصد فيه. وسمعك، عليك أن تكفه عن الحرام. وصوتك العالي، اغضضه.
وهكذا في كل قواتك لا تقيمها على مداها، بل تقيمها على مراد الله وتقديره وما شرع
الله لك فيها.
وأما من استخدم قواه على عماه وهواه مثل فرعون
وهامان وقارون وغيرهم من الأمثال، يجعلهم الله نكالا وعبرة لمن يخشى. فالمسلم
يكفكف قدرته وتسلطه، والمتكبر الظالم الطاغي يعتو في الأرض ويفسد فيها بما ملك من
قوته ولا يعلم أن ختامه وبالا عليه!
وذلك أبو مسعود مسك عبده يضربه من غضبه عليه،
فقال له النبي اعلم أبا مسعود أن قدرة الله عليك أكبر من قدرتك عليه، ومن شدة
الغضب لم يع ويفقه أن ذاك صوت النبي فالتفت مغضبا عليه ولما وجده رسول الله هد
وانخفض بنفسه وقال يا رسول الله هو حر لوجه الله. فقال له النبي لو لم تفعل لمستك
النار. بل ولقد جعل الإسلام جلسة الفرد الفخمة والتكبر والاستعراض من هيئة
المنافقين، كأنهم خشب مسندة.
فكل ذلك علم الإنسان أن يهذب قدراته، فيعدل
خطواته، ويعي كل حركة من حركاته وتصرفاته حتى على البهائم دونا عن البشر. فذلل من
كل قواك وهذبه على ما جاء من الشرع.
المعنى من زي المرأة الإسلامي
لا يكمن معنى الحجاب وزي المرأة المسلمة في مجرد
قطع القماش كما يحتج الكثيرون من أهل الزيغ احتجاجا باطلا، ولكن المعنى الأصلي في
تلك الثياب هو معنى الحياءَ فإن مواضع الفتنة الظاهرة من المرأة تسمى عورة. مجلوب
ذلك من العار فكأن من العار على المرأة المسلمة أن تبرز وتظهر وتتفنن في إبراز ذلك
للناس. وتسمى تلك المواضع أيضا بالسوءة من السوء، فكأن ذلك من العار والسوء أن
تظهر المرأة ذلك وتبرزه للناس، وأن من تراها متزينة متفننا في إظهار كل ذلك إنما
هي قد قطعت شوطا كبيرا ربما لا تدركه هي نفسها من الفجور والبعد عن الحياء.
ولقد كان من غيرة الله على رسوله أن يرى عذاب
الكاسيات العاريات المائلات المميلات رؤوسهن كأسمنة البخت، فلم يؤذ الله رسوله بأن
يري عذاب ذلك الصنف بسبب أنهم صنفا قد قطع شوطا كبيرا في تدمير الحياء والوقوع في
الفجور، والجرأة، واختراق الحجب ،والحواجز.
بينما يقول الإسلام عن المرأة المسلمة العفيفة
التقية أن في حجابهم ولباسهم تعريفا لهم، ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين.
وزيد عن ذلك معنى العزة والسمو، فتلك المرأة
المسلمة وقت جسدها من أن يكون سلعة وبضاعة رخيصة معلنة تستجلب بها أعين الناظرين
وتتلهم نظراتهم وتفتنهم بجسدها الذي أصبح رخيصا لا ثمن له ولا قيمة له غير أن
يماثل القمامة التي يبصق عليها كل أحد ولا يقربها أحد. بينما العفيفة المسلمة لم
يظهر منها إلا عفتها وطهرها وعقلها وعملها.
بل ومن العجيب أن ترى بعض بلاد الكفر تجعل من الأميرات والملكات لهم خاصة وسمو عال فلا يتهتكن كما يتهتك عموم نساء القرية، فكيف ذلك؟ يقولون: أنها ملكة، أميرة، ليست كبقية العوام.